سنة قراقوش

لا تظن انسياقا خلف العنوان اننا نصف هذا العام بالظلم الذي ما بعده ظلم، وهو كذلك واكثر، لكن هذه السنة سنة قراقوش، تاريخ وليس مجازا، فقد مات الرجل ـ عام 1201م وكنا نظن ان جهة ما لا بد ان تحتفي بثمانمائة عام على رحيله، وها هو العام يوشك على الانصرام من دون ان يتذكر قراقوش المظلوم احد لا من الخصيان ولا من الذين ما زالوا يحتفظون برموز رجولتهم الشكلية.
ولم يظلم معاصرونا وحدهم قراقوش فقد ظلمه قبلنا معاصروه، فالكتاب الذي يعدد مظالمه ومخازيه «الفاشوش في احكام قراقوش» للاسعد بن مماتي صدر وقراقوش على قيد الحياة وتناقلته الركبان لا لان قراقوش كان مكروها فحسب، بل لان النخبة ـ والعامة احيانا ـ تكره الرجل الناجح، وكان قراقوش ناجحا وجديرا بالمديح لكنه ولسوء حظه لم يحصل من اهل عصره، ومن بعدهم، على غير اللعنات والشتائم.
وقراقوش هذا كان وزيرا كبيرا في عهد سلطان خطير هو الناصر صلاح الدين، وكان في الواقع اكثر من وزير، فحين اضطرار صلاح الدين لمغادرة القاهرة حربا او حجا كان يجعله نائبا للسلطان على الديار المصرية التي ترك فيها قراقوش آثارا لا تفنى، فهو الذي بنى للمصريين القلعة على سفح المقطم ثم سور القاهرة الايوبية التي تمددت على حساب القاهرة الفاطمية.
والقناطر في الجيزة ايضا من انجاز وابداع قراقوش المحب للمعمار والكاره له في الوقت نفسه، فقد بنى كل هذه الآثار والاوابد بأحجار اهرامات صغيرة فككها واخذ احجارها ولو كان حيا لصار اول مطلوب للعدالة على قائمة اليونسكو.
وقد أتته صفة الظلم والاحكام الجائرة لان كل هذه الاعمال تمت بالسخرة، فقد ارهق هذا الوزير العجيب المصريين ايما ارهاق، وكان عبيده الغلاظ الشداد يجمعون الناس من الشوارع والقرى ويأخذونهم الى المقالع تماما كالعهود الاولى لبناة الاهرام، فشروط العمل لم تتحسن كثيرا من عهد قورش وخفرع الى عهد قراقوش.
وعلى الارجح، فإن كتاب الاسعد بن مماتي «الفاشوش في احكام قراقوش» ليس اكثر من «زنبة موظفين»، فالاسعد نفسه كان ناظر الديوان في عهد صلاح الدين واحد العاملين البارزين مع القاضي الفاضل صاحب الديباجة الممدوحة وكاتب رسائل السلطان، وقد ذكر ابن خلكان في وفيات الاعيان رسالة ابن مماتي وقلل من شأنها ومدح قراقوش بما يليق بالملوك والامراء العظام.
ولاحقا سوف يكرر العماد الاصفهاني مدائح أخرى بحق قراقوش ليقول عنه حين انتدبه صلاح الدين لاصلاح أسوار عكا وموانيها: الراجح الرأي، الناجح السعي، الكافي الكافل بتذليل الجوامح وتعديل الجوانح، وهو الثبت الذي لا يتزلزل والطود الذي لا يتجلجل بهاء الدين قراقوش الذي يكفل جاشه بما لا تكفل به الجيوش.
ولا تزعل من العماد الاصفهاني، فاسلوبه هكذا كاسلوب القاضي الفاضل مثل الرحى التي تطحن على فراغ دون قمح ولا زوان، ولو نقلت لك ما يقوله عن فتح بيت المقدس اكبر انتصارات المسلمين في القرون الوسطى لقلت في نفسك الصمت خير من ثقيل الكلام، والبساطة في الوصف اجمل مليون مرة من «دبش» السجع الذي وقع في غرامه كتاب تلك العصور المليئة بالتملق والنفاق.
وعودة الى قراقوش الذي يقول خصومه عن احكامه انه كان يحبس الدائن ويطلق سراح المدين ويهين الناس ويعذبهم لاتفه الاسباب، ويدفنهم وهم على قيد الحياة، ويطلق المرأة من زوجها اذا لم تحب سعاله.
ان جميع تلك الاحكام تدل على حالة ضجر، وعلى عقدة نفسية متأصلة، فمن يفقد ذكره في طفولته لينضم الى قافلة الخصيان في القصور التزاما بنظام الخصاء الرسمي لا تتوقع منه ان يكون محبا للبشرية، وحريصا على مشاعر الناس، فمن لم يحترم البشر اخص خصوصياته الى درجة قطع عنوان رجولته لن يحترمهم او يعطف عليهم بالتأكيد، ثم ان نظام السخرة الذي مكنه من بناء القناطر والقلعة والسور ما كان ممكن التطبيق الا بظلم عظيم، وفي هكذا ظروف لا تستغرب ان تنزل سمعة هذا الخصي في عيون العامة الى الحضيض، فقد جرت العادة منذ عهد الفراعنة ألا يلوم الناس الرجل الاول ولا الثاني انما يلقون باللوم كله على عاتق الوزراء والمستشارين، وفي النهاية ـ والاصح في البداية ـ فإن قراقوش في نظرهم ليس إلا خصيا من ملايين الخصيان الذين لا تنظر اليهم المجتمعات بعدالتهم مهما انجزوا بأي شكل من أشكال التوقير والاحترام.
*ولكن الا يوجد في العلم العربي مئة الف قراقوش؟؟؟؟

حازم السويطي