قال الراوي ) فلما فرغ جساس من كلامه قال أبوه سوف ترى ما يحل بنا من البلاء والويل من سيف المهلهل فارس الخيل ثم صار يبكي ويتأسف ويلطم كفا على كف ثم قال لأولاده الرأي عندي أن نكتف جساس ونرسله الى الزير وأخوته ليقتلوه بثأر كليب وبهذه الوسيله تزول الفتنه وتطفي النار وتزول الاحزان والاكدار فان المصيبه عظيمة وعاقبتها ذميمه وخيمه فقالت اولاده ماهذا الكلام يابانا فهل بعد كليب غير جساس يليق أن يكون ملكا فأن كنت تحسب جساب المهلهل فما هو الا كالاهبل وليس له داب الا اكل الكباب وشرب الشراب وقال مرة العياذو بالله من كيد الشيطان الرجيم ولاحول ولاقوة الا بالله العلي العظيم ثم قال لاولاده وان اخيكم همام له عند الزير مدة ايام فنخاف ان يعلم الزير بقتل اخيه فيقتله ولا يبقيه .
( قال الراوي) وكان لهمام جاريه اسمها رباب فاستعاده مرة اليه وقال لها اقطعي البقاع وسيري الى بير السباع واعلمي همام سرا بما جرى وتجدد قولي له ان يرجع بالعجل خوفا من ان يقتل فسارت الجاريه حتى وصلت الى هناك فوجدت الزير وهمام على سفرة الطعام وهما بالكلام ويشربان المدام ويتحدثان بالكلام فلما رآها همام وثب اليها وقال ما دهاك قالت سر طويل وحزن وعويل ثم أعلمته سرا بواقعة الحال وطلبت منه المسير الى الاطلال فلما وقف على حقيقة الاحوال اعتراه الانذال وغاب عن الصواب وتبدل انشراحه بالحزن والاكتئاب فلما طال بينهما الحديث والخطاب خرج الزير من بين الاطناب كأنه اسد الغاب فوجدهما يتكلمان سرا ويميان عليه فعظم الامر لديه فسل الحسام وقال ماهو الخبر ياهمام فاني اراكم في قلق واهتمام واشار يقول :
يقول الزير ابو ليلى المهلهل أحس النار في قلبي لهيب
فقلبي موجع والجسم ناحل ولا القى الى جسمي طبيب
وشاب الراس مني والعوارض فاني صرت في حال عجيب
وافكر في الزمان وشؤم فعله وهذا الدهر يتقلب قليب
ايا همام الا يا ابن عمي فمالك خائف واقف رعيب
فما ابصر الحرمه تقول لك تناديك وانت لها تجيب
اراكم تكتموا الاسرار عني كأني بينكم رجل غريب
اراكم في حديث وفي وشاوش وبين ذا وذا امر عجيب
فلا تخل الامور من الحوادث يا همام اعلمني تصيب
والا افتحوا لي الباب حتى اروح عني بدا قلبي يطيب
( قال الراوي ) فلما فرغ من شعره أجابه همام يقول :
يقول همام اسمع يا مهلهل فدمعي فوق الخدود سكيب
وناري بالحشا قد أحرقتني أحس لها طي الفؤاد لهيب
أقول أنت تسمع يا مهلهل بأنك صاحبي نعم الحبيب
فما نحن في وشاوش لاوانت بيننا رجل غريب
انا واياك في طرب ولهو ولا تحسب حسابات الحسيب
جعلنا يا فتى نيت جملكم جرى دمه على نحره سكيب
فلما سمع الزير هذا الشعر توقد قلبه بلهيب الجمر وأجابه يقول :
يقول الزير يا همام اسمع ان ابن عمي لي نسيب
فما لك علم في وقتك كله ولا في القضيه لك طليب
فقم اذهب الى اهلك يا نسيبي بلا تطويل من قلب المعيب
فتأتي أخوتي ثم يقتلونك ويدعونك على الغبرا كثيب
فما أقدر أن أحميك منهم وانت محب ايا نعم الحبيب
فلو جينا ما عيش أكلنا وكاسات شربناه بطيب
لكنت أمد يدي تحت سيفي وآخذ ثار أخوي عن قري
ب
( قال الراوي ) فلما فرغ الزير من هذا الشعر والنظام قال لهمام انت من دون بني مرة نديمي وصديقي وزوج أختي ورفيقي ليس عندك علم بهذا المنكر فلا تخاف ولاتفزع فقال همام لقد جرى القلم يا ابن العم والذي مضى ما بقى يرجع فأما تقتلني عوض عن أخيك أو تأخذ منا ما يرضيك وترفع عن الحرب والقتال وتتركنا نبقى في الاطلال فو الله صعب على هذا الامر والتهب قلبي بنار الجمر لما سمعت بهذا الخبر المهول فلا كان جساس المهار قال الزير وحق من يعرف الغيب وروح أخي كليب أني لا أرفع السيف عنكم حتى اشفي غليلي منكم ثم أقتلكم عن بكرة أبيكم وأهتك النساء والبنات وأجعلكم مثلا بين الناس ولو لم تكن زوج أختي وسميري ما كنت أعلمتك بما في ضميري بل كنت قتلتك في الحال وأورثتك النكال فسر الان الى الاطلال ولاعدت تريني وجهك في الحرب والقتال فلما سمع همام ذلك الكلام ركب ظهر الحصان وأوما الى ابنه شيبان الذي الذي كان معهما في ذلك المكان ان يسير معه الى تلك الاوطان فامتنع عن المسير وقال سأيقى مع خالي الزير فسار همام وقد عظم عليه الامر وهو ينقض غبار الموت عن منكبيه حتى وصل الى حلته واجتمع بأبيه وأخوته وأخذ يلوم جساس على فعله وكيف انه تجاسر على كليب وقتله وأعلم قومه بما عزم الزير فخاف الكبير والصغير وأيقنوا بالهلاك والتدبير واستعدوا من يومهم الى الحرب والكفاح وجمعوا آلات الحرب والكفاح هذا ماكان على بني مرة وأما الزير صاحب الشجاعه والقدره فانه بعد ذهابه الى الديار اشتعلت بقلبه لهيب النار واعتراه الاصفرار فصار يلطم وجهه في يده وقد عظم الامر عليه حتى رقصت شعرات شاربيه ومع ذلك لم تنزل من عينيه دمعه لانه كان من الجبابرة السبعه وكان يقول وحق رب العباد لابد ان افتك ببني بكر الاوغاد واقتل الشيوخ والاولاد ولما طال المطال وهو على هذا الحال قال له شيبان بن همام دع عنك هذا الكلام واشرب المدام فانك عاجز يا خال عن هذه الفعال فمن انت من الابطال حتى تتكلم بهذا المقال وتتباهى على الامراء واكابر الناس كأبي همام وعمي جساس ثم انشد اليه يقول وعمر السامعين يطول :
انشد شيبان وقال في بيوت ودمعي من عيني طال
خالي اسمع ما أقول وحط قولي وسط البال
خلي الهرج ووطي النفس واترك عنك القيل وقال
تقول تكيد بني مرة وتقتل كل الابطال
غدا يا خالي هم يأتوك بخيل كثير ونعم رجال
يظهر خيول عليك تجول ودق طبول كما الزلزال
ونرج الارض بطول وعرض ترحوا قتلي بضرب صقال
يجيء جساس قوي الباس كذا العباس زكي الحال
وياتي عمر بخيل ضمر وصفر ونمر وابو جفال
يجي ملك القوم كان بيوم الكون **بع صال
وأخي شيبون بطل مجنون وابي همام ان جال ومال
وتاتي الشوس وكل عبوس يخلوا الروس تلال تلال
فلما انتهى شيبان من كلامه أجابه الزير على شعره ونظامه :
يقول الزير أواه أواه يا ابن اختي عقلي زال
يولي غدا الفرسان تجيك يخوفني من أهل أنذال
أتاريك انت عدو مبين كلامك ما خلالي حال
وانا العربيد بيوم نكيد للروس اكيد بطعن وعوال
اكيد الشوس اقطع الروس انا الجبار فغير محال
وبعد كليب لابيع الروح اشلكم بالرمح شلال
وبعد كليب اخلي السيف طول العمر بكم عمال
وبعد كليب سياج البيض ما أعتق منكم رجال
وانت يا ابن اختي اليوم عدت بغير محال
وابوك أغدي سيفي فيه وأعشي الرمح من الابطال
( قال الراوي ) فلما فرغ الزير من انشاده نهض الغلام ليركب على جواده ويلحق بأبيه وأعمامه فضربه الزير بجامه القاه على الارض قتيل وفي دماه جديل ثم قطع عنقه ووضعه في مخلاه حصانه ولفها في قربوس السرج وتركها فسار الجواد حتى وصل الى القبيله وسار الى بيت مولاه فلما رأت أم الولد جواد الغلام وهو في تلك الصفه قالت للجاريه دونك جواد سيدك فتقدمت الجاريه وأخذت المخلاة فوجدت فيها رأس شيبان فاستعظمت ذلك الشان واعلمت بواقعة الحال فطار عقلها لما نظرت راس ابنها مقطوع فضجت بالبكاء والنواح والعويل والصياح فاجتمعت عليها نساء الحي من كل مكان ولما سمع همام الخبر طار من عينيه الشرر فبكى واشتكى وقال لزوجته ضباع نظرت ما فعل أخوك فو الله لم يبق لي غريم سواه فشقت ثيابها وسارت عند أخيها المهلهل ولامته على ما فعل وقالت اتقتل ابن أختك بثأر أخيك ثم أشارت تقول :
تقول ضباع يا سالم علامك بجاه كليب ماسويت بابني
بثأر كليب تقتل ابن أختك وتحرق مهجتي وتزيد حزني
حزنت على كليب وماجرى له وحزني في صميم القلب مبني
ولكن قد حكم ربي مراده وربي ما كتب لي يصيبني
فأجابها الزير بهذه الابيات :
يقول الزير من قلب حريق بقتل كليب زاد اليوم حزني
الا يا أخت قلي من بكاك ولا تخشين من أمر يعبني
فو الله ثم والله ثم والله اله العرش منذ ادعو يجبني
فلا بد لي من حرب الاعادي وقتل كل جبار طلبني
فلما فرغ الزير من كلامه قالت له الله درك ياسالم ياقهار الاسود القشاعم لقد زالت لوعتي الان وخفت عني الاحزان لما سمعت شعرك يافارس الفرسان وعرفت ما انت معول عليه من الحرب والطعن وأخذ الثأر وكشف العار ثم رجعت الى الديار وهي في قلق وافتكار هذا ماكان من امره
( قال الراوي ) ولما اشتهر موت كليب ووصل الى ابنائه الخبر وعلمت بذلك جميع أهله وبناته فمزقوا الثياب واكثروا من البكاء والانتحاب فتهتكت لوجه الملاح ووقع في الحي العويل والصياح و**رت الفرسان السيوف والرماح وخرجت بنت كليب من الخدور وهن مهتكات الستور نشرت الشعور حافيات الا الاقدام يقطعن السهول والاكام وقدامهن اختهن اليمامه وكان ذلك اليوم مثل يوم القيامه ولما وصلن اليه وجدن الطيور حائمات عليه فوقعن على جثته وقبلن يديه وارتمين حواليه ولما قرأنا ذلك الشعر الذي كتبه على الصخرة زادت احزانهن واخذن يلطمان على وجوههن ثم اقبلت اخوة كليب الى ذلك المكان وازدحمت الرجال والنسوان والابطال والفرسان والسادات والاعيان يرثوه بالاشعار واجروا لهيب نارها سوء البطل الاوحد والسيف المهند والصحصاح الشهير الذي ليس له في ذلك العصر نظير عمها المهلهل الملقب بسالم الزير فسارت هي واختها اليها وتوقفت عليه فقالت والله ياعماه مكانك حزنان بما جرى علينا وكان من طوارق الزمان يقتل اخيك ملك العصر والاوان ثم القت نفسها غميانه في حجره وضعن على جثته وقبلن يديه وارتمين حواليه ولما قرأنا ذلك الشعر الذي كتبه على الصخرة
ويقول سلامتك ياأمير اليمامه ياصاحب الجهه والكرامه فقد احرقت قلبي بفقدك فلا كان من عيش بعدك ولما اشتد عليه الامر ارته اليمامه وصية أخيه المكتوبه على الصخره فقرأها وقال وحق الاله المتعال اني لا اصالح الى الابد مادامت روحي في هذا الجسد ثم بكى وتنهد ورثاه بهذه القصيده أم السادات واكبر العمد وهي من أجود مراثي العرب واحسن الاشعار أهل الفضل والادب :
كليب لاخير في الدنيا وما فيها ان انت خليتها لم يبقى واليها
فيها تنعي النعاة كليبا فقلت له مالت بنا الارض أم مالت رواسيها
ليت السماء على من تحتها وقعت حالت الارض فاندكت أهاليها
الناحر النوق للضيفان يطعمها والواهب الميتة الحمراء براعيها
الحلم والجود كانا من طبائعه ماكل اللطافه ياقوم تحصيها
ضجت منازل بالخلان قد درست تبكي كليب نهار مع لياليها
كليب اي فتى زين ومكرمة تقود خيلا الى خيل تلاقيها
تكون اولها في حين كرتها وانت بالكر يوم الكر حاميها
غدرك جساس ياعزي ويا سند وليس جساس من يحسب تواليها
لا أصلح الله منا من يصالحهم حتى يصالح ذيب المعز راعيها
وتوالد البغله الخضرا خدالجه وانت تحيا من الغبرا تاليها
ويحلب الشاة من اسنانها لبن وتسرع النوق لاترعى مراعيها
( قال الراوي ) فلما فرغ الزير من هذا المرثيه الغراء وسمعته السادات والامراء تعجبوا من فصاحة لسانه وقوة قلبه وجنانه ومااحتوة اليه من الالفاظ الرقيقه والمعاني البليغه الدقيقه وقالوا والله لقد جاد سالم الزير وفاق على الاشعار والمشاهير بهذا الكلام الذي هو كالدر النظير ثم اجتمع الامراء المقدمين وقالوا للعرب المجتمعين انها ماعاد ينفع البكاء والانتحاب وان اكرام
الميت دفنه في التراب ثم أتوبكليب الى الديار ودفنوه بكل أحترام واعتبار واحتفال ووقارو رثوه
بنفائس الاشعار وبنوا على قبره قبه من أعظم القبب وطلوا حيطانها بالذهب والفضه فكانت من العجب في بلادالعرب زخرفوها بالنقش الفاخر كتبوا على حيطانها اسماء الاله القادر .
(قال الراوي ) وبعد أن تلو أسماء الاله القادر وسمعتها السادات ورؤساء العشائر دفنوا الامير
كليب كما تقدم الكلام ذبح الزير على قبره النوق والاغنام وفرق المال والطعام على الارامل
والآيتام ثم جلس في الديوان وجميع الآكابر والآعيان وأبطال الميدان والفرسان واخوانه الشجعان وقال أعلموا أيها الآمراء والساده الكرام أن جساس أهانكم وقتل ابن عمكم وملككم
فاستعدوا لاخذ الثار وكشف العار من بني بكر الاشرار فلما سمعوا منه هذا الكلام أجابوه الى ذلك
المرام وقالوا عن فرذ لسان أننا بين يديك ولا نبخل بأراوحنا عليك لان الامير كليب لاينتهي ولم تلد ةمثله النساء ثم انهم تحالفوا معه وعاهدوه على الكرسي المملكه وبايعوه واجلسوه فلما تملك على القبيله طرد امراه اخيه الجليله فسارت الى بيت ابيها وجواريها وكانت جليله بولد ذكر سوف يأتي عند الخبر واستعد الزير من ذلك اليوم لقتال القوم وحلف بأعظم الاقسامه بأنه لايشرب المدام ولايلتذ بطعام حتى يأخذ يأخذ ثأره بعد الحسام وينتقم من بني بكر أشد الانتقام
او انه يموت تحت ارجل الخيل ولايبالي بالويل ثم امر الرؤساء والقواد بجمع العساكر والاجناد
وان يكون في استعداد للحرب فامتثلوا امره في الحال وتجمعت الفرسان والابطال حتى امتلات الروابي والتلال وكانت قد انضمت اليه عدة قبائل وامدوه في العساكر والجحافل حتى سار في لأربعمائة الف وقال لما بلغ بني بكر هذا الخبر اعتراهم القلق والضجر وخافوا من العواقب وحلول النوائب فجمعوا المراكب والكتائب وسار بهم الامير الى الذئاب وهومكان شهير يبعد ثلاثه أيام عن قبيله الزير وهناك أنضمت اليهم بعض القبائل من العربان فكانوا نحو ثلاثمائه
ألف واقاموا في ذلك المكان ولما سمع الزير برحيل مرة واولادة الى الديار قال لا بد أن اقتفي الاثار وافني الكبار والضغار ثم امر الفائد الكبير بسرعه المسير فامتثلوا ماامره وفعلوا ما ذكرة وفي الحال دق طبل الرجوع فارتجت منه السهول والمروج وهو الطبل الذي كان لتبع حسان ولم
تكن الا ساعه من الزمان حتى ركبت الابطال والفرسان وركب المهلهل متسربلا بالسلاح كأنه
ليث الغاب وعلى راسه الرايات والبنود ومن