الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد حمدا لله والصلاة والسلام على رسله وأنبيائه وبعد فهذه سيرة الأسد الكرار والبطل المغوار الذي شاع ذكره في الأقطار وأذل بسيفه كل صنديد وجبار المهلهل بن ربيعه صاحب الأشعار البديعة والوقائع المهولة المريعة وما جرى له في تلك الأيام مع ملوك الشام وفرسان الصدام من الحوادث والوقائع التي تطرب القارئ وتلذ السامع ولكن قبل الشروع في هذه السيرة الغريبة وأخبارها المطربة الغريبة رأينا أن نذكر طرفا من أخبار العرب أهل الفضل والأدب أفاده للطالعين ونزهة للسامعين فنقول والله المستعان : أن أصل العرب من قديم الزمان وسالف العصر والأوان ولد نزار بن معد بن عدنان وكان قد ولد لنزار المذكور أربعة أولاد من الذكور كل منهم بالفضل والبأس مشهور وهم : مضر أنمار وأبار وربيعه وفارس الطرار ومنهم تشعبت قبائل الأعراب وملأت البراري والهضاب فمن نسل أباد ملوك التابعة الذين أخبارهم بين الناس شائعة ومن نسل ربيعه ومضر وأنمار عرف الحجاز ونجد والعراق وسكان القفار وكانت العرب في تلك الزمان منقسمة إلى قسمين وهما قيس ويمن فكان اليمن هم اليمنيون وباقي العربان القيسيون ومازالت العرب تنمو وتكثر وتمتد في البر القفر حتى اشتهرت العشائر والقبائل وظهر الأمير ربيعه وأخوه مرة وأبناء وائل و ربيعه المذكور هو أبو الزير الفارس المشهور صاحب هذه السيرة ووقائعها الشهيرة .
(قال الراوي): وكان ربيعه في ذلك الزمان من جملة ملوك العربان وأخوه عروة من الأمراء والأعيان وكانت منازلهم في تلك الأيام في أطراف بلاد الشام وكانا يحكمان على قبيلتين من العرب وهما بكر وتغلب وولد لربيعة خمسة أولاد مثل الأقمار وهم كليب الأسد الكرار وسالم البطل الشهير الملقب بالزير وعدي ودرعيان وغيرهم من الشجعان وكان له بنت جميله الطباع شديدة الباع تعارك الأسود والسباع أسمها أسماء وتلقب بضباع وأما الأمير مرة له عدة أولاد أبطال أمجاد وقد اشتهروا بالشجاعة وقوة البأس منهم همام وسلطان وجساس وله بنت جميلة فاضلة نبيلة يقال لها الجليلة فاتفق في بعض الأيام أن الأمير مرة دخل على أخيه ربيعه في الخيام وخطب أبنته ضباع لابنه همام وخاطبه بهذا الشعر والنظام :
يقول أمير مرة في قصيدة معانيه حكت درر الجواهر
ربيعة ياأخي اسمع كلامي أيا قهار فرسان الجبابر
أريد ضباع بنتك ياربيعه إلى همام يافخر الأكابر
ولما ينتشي ابنك كليبا ويركب ياأخي الخيل الضوامر
وتكبر ياملك بنتي الجليلة مر فخذها له زوج لاتشاور
وهذا ياأخي أقصى مرادي أيا صدام آساد الكواسر
تبدي له ربيعه ثم قال له كلامك ياأخي مثل العنابر
تريد ضباع خذها يامسمى وزوجها لابنك لاتشاور
ومعها مائة خادم يخدمونها ومائة جاريه غير السرائر
ومعها مائة حر كالعرائس ومائة قعود مع ميتين جوائر
ومعها محمل الفاخر واطلس زياد ومسك فايح ودم عاطر
وهمام ابن مرة مثل ابني لغيرك ما أناسب أو أصاهر
هلم انهض وزوجها بسرعه وأفرح فيه وأعمل عرس فاخر
فلما فرغ ربيعه من كلامه وشعره ونظامه أعتنقه أخوه وشكره على حسن اهتمامه ثم باشر القوم بأمر العروس من ذلك اليوم وعقدوا عقد الأمير همام على ضباع بنت الكرام كما جرت عادة الملوك العظام فأولموا الولائم وذبحوا الذبائح وأطعموا كل آت ورائح ومازالوا في سرور وأفراح وبسط وانشراح ودق طبول ولعب خيول وشرب مدام مدة عشرة أيام ثم زفوا ضباع على الأمير همام فكانت ليلة عظيمة لم يسمع بمثلها في الأيام القديمة حضر فيها كثير من سادات العرب وأهل المناصب والرتب ودخل همام على ضباع وحظي بحسنها وجمالها ونالت منه غاية آمالها لأنها كانت تحبه محبة شديدة وتوده مودة أكيده وسوف يظهر لهما ولدان وهما شيبون وشيبان وسيأتي حديثهما بعد الآن .
هذا ماكان من خبر بني قيس المدعوين بالقيسيه ولنتكلم الآن عن حديث اليمنية وما جرى لهم في تلك الأيام من الأمور والأحكام والحروب والأهوال في ميادين القتال فنقول وعلى الله الاتكال .
أنه كان في قديم الزمان في بلاد اليمن ملك عظيم الشأن صاحب جند وأعوان وأبطال وفرسان يقال له الملك حسان ويكنى بالتبع اليماني ولم يكن له بين الملوك ثاني وهو أول اليمنية كما كان ربيعه أول القيسيه وكان شديد البأس قوي المراس طويل القامة عريض الهامة ولا يعرف الحلال من الحرام ولا يحفظ العهد والزمان وكان يحب النساء الملاح والمزاح منهن في المساء والصباح ومن أعماله الغريبة واصطلاحاته العجيبة كما ذكر أصحاب الرايات أنه كل ليله يتزوج بصبيه من بنات الملوك والسادات وكانت الملوك تخافه وتخشاه وتحسب حسابه وتترضاه وتحمل له الخراج
وتعلل له الخاطر والمزاج وكان عنده من الأبطال والفرسان ألف ألف عنان وهم عشرة كرات مستعدين للحرب والغارات وكان له وزير عاقل خبير قوي الجنان اسمه نبهان قد امتاز على الأقران بفعل الخير والإحسان وكان كثيرا ماينهى الملك حسان عن ارتكاب الظلم والعدوان فاتفق في بعض الأعوام وفي يوم من الأيام أن التقى تبع مع نبهان وقال له في الديوان بحضور الأمراء والأعيان هل سمعت أيها الوزير والعاقل الخبير عن ملك كبير عنده رجال كرجالي أو أموال كعدد أموالي فقبل الوزير الأرض ووقف في مقام العرض وقال أعطني الأمان ياملك الزمان وأنا أحدثك بأخبار ملوك الأمم أصحاب البطش والهمم وما عندهم من الجيوش والعساكر والمهمات والذخائر
فقال قل وعليك الأمان من نوائب الزمان .
فقال أعلم أيها الملك المعظم أنه لايوجد مثلك في هذه الأقطار من الملوك الكبار أصحاب الدين والأمطار ولكن يوجد خارج البحار عرب من أهل الشجاعة والاقتدار عددهم كثير وجيشهم غفير يقال لهم بنو قيس وسيدهم اسمه ربيعه ولهم في الحرب والغارات وقائع مهوله مريعة وهم أعظم من وأكثر بأسا ،فلما انتهى الوزير من الكلام وسمعه من حضر في ذلك المقام أغتاظ الملك وتأثر وكان عليه أشد من ضرب السيف الأبتر فصاح على الوزير وزعق وقال له بكلام الحنق هكذا ياتيس تفضل علي بني قيس مادام الأمر كذالك لابد أن أقدهم بفرسان المعارك وأقتل ملكهم ربيعة وأوردهم وأورد المهالك وأخرب بلادهم وديارهم وأمحو بالسيف آثارهم وأتملك الديار بالقوة والاقتدار ثم أنشد هذه الأبيات على مسامع الأمراء والسادات :
يقول النبي اليمني المســمى بحنان فما للقول زورا
ملكت الأرض غصبا واقتدارا وصرت على ملوك الأرض سورا
وطاوعتني الممـالك والقبـائـل وفرسان المعامع والنمورا
لقد أخبرت عن بطـــل عنـيد شديد البأس جبارا جسورا
وقـــالوا انـه يدعـى ربــيعـه أمير قد حوى مدنا ودورا
تولى الأرض في طول وعرض فكم خرب وكم شيد قصورا
فقصدي اليوم أغزوه بجيشي وأترك أرضه قفرا وبورا
أيا نبهان أجمع لي العـساكر فيأتوا فوق خيل كالنمورا
وجهز ألف مركب ياوزيري واوسقهن في وسط البحورا
ثلاث شهور أسرع لا تطول يكون كل ماقلته حضورا
أسير بهم إلى تلك الأراضي وأملك القلاع والقصورا
ويغنم عسكري منهم مكاسب وأزوجهم بنات كما البدورا
ويبقى لي الحكم برا وبـحرا ويصفي خاطري بعد الكدورا
( قال الراوي ) فلما انتهى السبع من شعره ونظامه وفهم الوزير ما حوى حديثه وكلامه ندم وتكدر الذي أعلمه بهذا الخبر ولم يعد يمكنه إلا الامتثال وتجهيز الفرسان والأبطال إلى الحرب والقتال فنزل من الديوان وهو مقهور غضبان وأمر بدق الطبل والنحاس لاجتماع العساكر وباقي الناس وكان هذا الكبل يقال له الرجوج وهو من أعظم الطبول وكانت تدقه عشرة من العبيد الفحول وهو من صنعه ملوك التبايعة العظام وكانت الناس تسمع صوته عن مسافة ثلاث أيام وكان الملك حسان إذا غزا قبيلة من العربان يأخذ ذلك الطبل معه وأين ماذهب يتبعه ولم يزل هذا الطبل في ذلك الزمان يتصل من ملك إلى ملك حتى أتصل إلى الأمير حسان سيد بني هلال المشهور بالإحسان والأفضال فلما دقت العبيد الطبل وسمعت صوته قواد الفرسان أقبلت على الوزير من كل جهة ومكان فساموا عليه وتمثلوا بين يديه وسألوه عن سبب دق الطبل الرجوج فحدثهم بذلك الأ يراد والمسير إلى تلك البلاد للغزو والجهاد ثم بعد ذلك فر ق عليهم السلاح وآلات الحرب والكفاح ولما تكن المدة قصيرة حتى تجهزت المراكب وتجمعت العساكر من كل جانب وكان من جملتهم عشرة من الملوك كبار كل ملك يحكم على ألف بطل مغوار وحضرو إلى أمام الملك تبع حسان وسلموا عليه وقبلوا الأرض بين يديه وقالوا له نحن بين يديك ولانبحل بأرواحنا عليك فشكرهم وخلع عليهم الخلع الفاخر والتحف الباهرة ووعدهم بالمال الجزيل وبكل خير جميل ثم أمر الوزير بالاستعداد والرحيل على غزوة بني قيس وتلك البلاد وطلب منها أن يأتي بالعساكر من تحت القصر وهي نازلة إلي البحر ليشاهد أحوالها ويرى سلاحها وأثقلها فامتثل الوزير لما أمر وفعل كما ذكر فانشرح صدر الملك عند رؤية العساكر والجحافل وهي في السلاح الكامل والاستعداد للحرب والقتال فأنشد وقال :
يقول التبع الملك اليماني صفا عيشي وقد طاب فؤادي
أتتني عساكر كالأسد تسري ألوف راكبين على جياد
عليهم كل درع من حديد له زرد كما عين الجراد
وبهم كل جبار عنيد يقال ألف ليث في الطراد
برؤيتهم فقد زاد انشراحي وزال الهم عني بابتعادي
أسير بهم لذاك البر حالا وأقتل كل من يطلب عنادي
وأرجع غانما في طيب عيش ولا يبقى لتبع من يعادي
ألا يا عسكر قروا وطيبوا على نيل المقاصد والمرادي
ومني أبشروا فيما تريدون مهما تطلبوه بازديــــاد
فلما فرغ من شعره ونظامه صرخت الأمراء وأكابر القواد والجيوش والعساكر والأجناد ودعوا للملك بالنصر وطول العمر وقد استبشروا في غزوة تلك البلاد وأيقنوا بالنجاح وبلوغ المراد ثم نزلت العساكر والأجناد في المراكب مع الأمراء والقواد ، وكان الملك حسان قبل خروجه من الأوطان فقد سلم زمام ملك اليمن إلي الصحصاح بن حسان وهو ملك كبير وفارس شهير كان يميل إليه ويعتمد عليه فأوصاه أن يجمع له المال في كل عام ويرسله إلي بلاد الشام ثم نزل مع الوزير في مركب كبير وأقلعوا من الأوطان وقصدوا بلاد الجبش والسودان . وعند وصولهم إلي ذلك الجانب القوا المراسي ونزلوا إلى البر بالقوارب ونصبوا الخيام والمضارب وفي الحال أرسل الملك تبع وزيرا اسمه زيد بن عقبه بألف فارس منتخبه ليعلم ابن أخته الرعيني بقدومه الي تلك الأقطار لأنه كان ملك هاتيك الديار ويأمره بسرعة الحضور وتقديم الذخر الي الجيش والعسكر فلما علم الرعيني بذلك الخبر بادر في الحال بالفرسان والأبطال والمهمات الثقال الي أن التقى به في الصيوان ومن حوله الوزراء والأعيان فدخل وسلم عليه وقبله بين عينيه وقدم له الذخائر والمهمات لتلك الجهات فأعلمه بواقعة الحال وأنه قاصد غزو بني قيس وتلك الأطلال ثم باتوا تلك الليلة في الخيام وفي الصباح أمر الملك العشرة ملوك العظام أن يتأهبوا للرحيل الي بلاد الشام وان ينقسموا الي قسمين ويتفرقوا الي فريقين فخمسة تسير من اليمين وخمسة تسير من على الشمال وأوصاهم أنهم كل ما أقبلوا الي مدينة يملكوها في الحال ويقيمون فيها نائبا من سادات الرجال فأجابوا أمره بالخضوع والامتثال فعند ذلك دقت الطبول والزمور وركبت الفرسان ظهور الخيول وارتفع الصياح ولمع السلاح وترتبت الكتائب وسارت المواكب في تلك البراري والسباسب وكانوا كلما وصلوا الي مدينه أو بلد امتلكوها بحد السيف المهند حتى ملكوا البلاد وطاعتهم العباد ومازال تبع يتقدم حتى أقبل الي مدينة الشام فأحاط بها من جميع الجوانب بالمواكب والكتائب وكان نائب الملك ربيعه في دمشق الشام يدعى يزيد بن علام وكان ربيعة وأخوه مرة في وادي الانعمين وهو مكان بعيد عن المدينة مسافة يومين فأرسل الملك تبع إلى نائب الأمير ربيعة أحد الوزراء العمد يطلب منه الخضوع لأمره وتسليمه .
فلما وصل إليه ودخل عليه وأعلمه بالخبر وما قال تبع وأمره فأجاب بالسمع والطاعة ونهض مسرعا في تلك الساعة وأخذ معه الأموال والذخائر وخرج في جماعة من الأكابر حتى التقى بتبع في الخيام فحياه بالسلام فترحب به غاية الترحيب وأمر له بالجلوس فجلس بمكان قريب منه فقال تبع هل أنت حاكم الشام قال نعم أيها الملك الهمام فسأله عن حكم ربيعه فقال له
ظالم على قومه وكل الرعايا تشكوا من ظلمه وتتمنى له الأذى والضرر والموت الأحمر والحمد لله رب البرية الذي أعاننا بك حتى نتخلص من نير العبودية فسنخدمك خدمة مرضيه ونصير لك من جملة الرعية وما قوله ذلك لتبع إلا من الخوف والفزع فتبسم تبع من هذا الكلام وقال ابشر ببلوغ المرام فانك ستكون نائبي في بلاد الشام وتحمل لي الخراج في كل عام فقال سمعا وطاعة ياملك الزمان وجوهرة هذا الأوان ثم عرض عليه الذخائر وما جاء به من نفيس الجواهر فانشرح صدر تبع وخلع عليه وقال له أذهب الان إلى وجوه أهل المدينة وباشر في الضيافات والزينة فإننا سنحضر الي عندك بعد ثلاثة أيام ونتفرج على الشام ونرجع إلى المضارب والخيام فقال أهلا وسهلا الأرض أرضك والبلاد بلادك ثم ودع الملك وسار بمن معه من الأكابر والتجار وأخذ يسعى في أمر الوليمة وقد خامرت معه أهل الشام خوفا من السبي والهزيمة .